قول رباني حكيم، نزل به الروح الأمين في شأن المشركين، إذ قال أحكم الحاكمين:
{وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}، فالقرآن الكريم يصور لنا بشاعة الشرك، وسوء عاقبته، وهلاك صاحبه، وقد تآزرت في هذه الآية الكريمة جملة من الصور الجليَّة البليغة الموحية، إنضمَّ بعضها إلى بعض ليتركَّب منها حال المشرك ومآله.
فالمشرك إستبدل الكفر بالإيمان، والشرك بالتوحيد، والإلحاد بالحنيفيَّة التي فُطر الناس عليها، وهو بهذا الإستبدال البوار إنخلع من طينته، وإرتد عن فطرته، وانتُزع من جِبلَّته، ومن كانت هذه حاله {فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء}، فالتوحيد مثل السماء في وشموخه ورفعته، وقوَّته ومنعته، وتحرُّره وعزَّته، كما أنَّ الشرك حضيض ووضاعة، ورقٌّ وعبودية، وقيد وإصر، فمن إنفلت من فطرة التوحيد إلى رجس الإشراك كان كمن خرَّ من السماء.
إنَّ هذا السقوط الشنيع المردي لهذا المشرك، أبعده عن ساحة الحقِّ وميدانها إلى دائرة الباطل وأعوانها، لأنه فَقَد ببعده عن التوحيد مشكاة الطريق، وفارق أئمة الإستقامة والهدى، وألقى بنفسه في غياهب الظلمات، فتنازعته الأهواء، وتشعبت عليه المسالك، وحارت به السبل، فكان حاله كما وصف الباري عزَّ وجلَّ {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ}، يقول النسفي في تفسيرها: فإختطفته الطير فتفرق قطعا في حواصلها، وكذلك المشرك المبتدع، إبتدره أهل الباطل وأئمة الضلال والأهواء وتلقَّفوه، وتنازعوه بشتى مشاربهم وتوجُّهاتهم، وفرَّقوا فؤاده وحجاه بين مناهجهم الباطلة ومسالكهم المنحرفة.
ولما كان الساقط من علٍ لابد له من موقع ومستقر، كمَّل الله عزَّ وجلَّ صورة الهلاك والخسران، لهذا المشرك المتردي الحيران، فقال من لا شريك له ولا ندّ: {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}، فكان مأواه ومستقرُّه هذا المكان السحيق البعيد المجهول، وهنا تكمن بواعث الخوف والرهبة، فالمكان هنا منكَّر لأنه مكان غير معروف، وهذا سرُّ الرهبة والخوف، وقيل الريح هنا الشيطان، كما يقول أبو السعود: فإنَّ الشيطان قد طوَّح به في الضلالة.
والعطف بـ أو في الآية الكريمة يفيد التَّشبيه بهذا أو ذاك، أو كليهما معا، فقد يكون مشركٌ كمن تخطفه الطير، ويكون آخر كمن هوت به الريح في مكان سحيق، أو يكون على حسب حاله وفعاله، وقد نقل الآلوسي عن ابن منير قوله: إنَّ الكافر على قسمين: مذبذب متمادٍ على الشرك وعدم التصميم على ضلالة واحدة، وهذا مشبَّه بمن إختطفته الطير وتوزَّعته، فلا يستولي طائر على قطعة منه إلا إنتهبها منه آخر، وتلك حال المذبذب، لا يلوح له خيال إلا إتبعه وترك ما كان عليه، ومشرك مصمِّم على معتقد باطل لو نشر بالمناشير لم ينثني ولن يرجع، لا سبيل إلى تشكيكه ولا مطمع في نقله عمَّا هو عليه، فهو فرح مبتهج بضلالته، وهذا مشبَّه في قراره على الكفر بإستقرار من هوت به الريح إلى وادٍ سافل هو أبعد الأحياز عن السماء فاستقرَّ فيه.
الكاتب: د. تقي الدين بدر موسى.
المصدر: موقع دعوة الأنبياء.